بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين . أيها الإخوة الكرام ؛ في سورة النساء
الآية السادسة والستون بعد المئة ، يقول الله سبحانه وتعالى :
" لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ
وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً "
كلكم يعلم أن إنساناً شهد حادثةً ، ثم دُعِيَ لأداء الشهادة ، يقول لك : نعم لقد حصل كذا وكذا ، هذه شهادة الإنسان ، تسمعها بأُذنك من فمه ، فكيف نفسر هذه الآية ؟
إن الله سبحانه وتعالى يشهد لنا بما أنزل إليك يا محمد ، أيْ يشهد لنا أنَّ القرآن كلامه ، كيف يشهد الله لنا أن القرآن هو كلامه ؟ هل يعقل أن نستمع إلى الله مباشرةً .
قال تعالى : " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار "
( سورة الأنعام : 103 )
فكيف نفهم هذه الآية ذات الدلالة الواضحة ؟
الله سبحانه وتعالى هو بذاته يشهد لعباده أن القرآن كلامه .
أوضح لكم معنى هذه الآية بمثلٍ بسيط ؛ لو أن طلاب صف من الصفوف ، دخلوا غرفة الصف في أحد الأيام ، فإذا على السبورة العبارة التالية ، "غداً الساعة الثانية مذاكرة رياضيات "، التوقيع : مدرس الرياضيات ، الطلاب نظروا إلى هذه العبارة ، يا ترى أهذا كلام المدرس ! أو أنَّ طالباً يداعبنا ؟.
كيف يشهد المدرس أن هذا الكلام كلامه ؟ غداً الساعة الثانية
يدخل هذا المدرس ويقول : افتحوا الأوراق البيضاء عندكم مذاكرة ، حينما تأتي الأحداث مطابقةً للأقوال ، معنى ذلك أنّ هذا القول
قول المدرس .
اتفق العلماء على أن وقوع الوعد والوعيد ، هو شهادة الله
لعباده بأنَّ القرآن كلامه . يعني إذا قال الله عز وجل :
" يمحق الله الربا " ( سورة البقرة: 276 )
ورأيت إنساناً نمت أمواله بالربا ، ثم أُتلِفتْ هذه الأموال فجأةً ، ثم أحرق الله ماله ، أو أتلف ماله ، فإتلاف هذا المال شهادة الله لنا
أن القرآن كلامه ، لأن الله قال بالقرآن الكريم : يمحق الله الربا .
إذا رأيت إنساناً يتصدق ، فإذا بأمواله تنمو شيئاً فشيئاً ، فنمُّو أموال المتصدق شهادةُ الله لعباده أن القرآن كلامه ، لأنه يقول :
" ويربي الصدقات " ( سورة البقرة: 276 )
إنْ رأيت شاباً نشأ في طاعة الله ، مستقيماً على أمر الله ، ضبط جوارحه ، وضبط دخله، وتزوج امرأةً مؤمنةً صالحةً ، وكان هذا الشاب في سعادةٍ كبرى ، هذه السعادة الكبرى التي يعيشها هذا الشاب شهادة الله لعباده أن هذا القرآن كلامه ، لأن الله تعالى يقول : " من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينه
حياةً طيبة " ( سورة النحل : 97 )
إن رأيت إنسانًا معه ألوف الملايين ، وهو غير سعيد في حياته ، بل يعاني مُرَّ الشقاء ، وقال لك : أنا أشقى إنسان على الأرض وأقسم على ذلك ، فشقاء هذا الإنسان الغني شهادةٌ من الله عز وجل لعباده أن القرآن كلامه ، لأن الله سبحانه وتعالى يقول :
" ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكا ونحشره يوم
القيامة أعمى " ( سورة طه : 124 )
لذلك إذا قرأت في القرآن أن الله يشهد لعباده أن القرآن كلامه ، فشهادة الله غير شهادة العباد ، حينما تأتي الأحداث ، وهي أفعال الله مطابقة لما في القرآن ، فهذه أكبر شهادة من الله سبحانه وتعالى أن القرآن كلامه .
فلما قال المدرس : افتحوا الأوراق ، وإليكم الأسئلة ، معنى الكلام أنّ الذي كتب على السبورة قبل يومين المدرسُ بخطَّه ، وإن لم يكن بخطه فبأمره تمَّت الكتابة ، حينما جاءت المذاكرة مطابقة للتصريح السابق فهذه شهادته .
فيا إخوتى الكرام قال الله تعالى في آية أخرى تؤكد هذا المعنى :
" بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله "
( سورة يونس : 39 )
قال جمهور العلماء : تأويل القرآن في هذه الآية ، وقوع الوعد والوعيد .
إذا رأيت الله سبحانه وتعالى ، نصر المسلمين الأوائل ، ومكنهم في الأرض ، واستخلفهم على عباده ، وبدل خوفهم أمنا ، هذا مصداق قوله تعالى : " وعد الله الذين أمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن
لهم دينهم الذي ارتضى وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا "
( سورة النور : 55 )
إذا رأيت المسلمين في هذه الأيام ليسوا كما يتمنى أحدُهم ، وليس أمرهم بيدهم ، فاذكرْ قوله تعالى : " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا "
( سورة مريم : 59 )
ولقد لقي المسلمون ذلك الغي ، حينما تأتي الأحداث مطابقة للقرآن الكريم ، فاعلمْ أن هذا القرآن كلامه ، حينما قال الله عز وجل :
" غلبت الروم ، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون
، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد "
( سورة الروم : 2 - 3 )
المعركة التي جرت بين الروم والفرس في غور فلسطين ، وما كان أحد يعلم في حينه ، ولا في عهد رسول الله ، أن غور فلسطين أخفض نقطة في الأرض قال الله تعالى :
" غلبت الروم ، في أدنى الأرض "
إذاً كل الحقائق التي تأتي الآن تؤكد أن هذا القرآن كلامه ،
حينما قال الله عز وجل :
" وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق " ( سورة الحج : 27 )
المنطق أنْ يقول ب سبحانه : "بعيد" ، لكنه قال : " عميق "
وهذا يعني أنَّ الأرض كرة ، كلما ابتعدت عن نقطة الكرة ، نشأ بُعد نحو الأسفل ، بُعد غير بُعد المستقيم ، "من كل فج عميق" ، العمق يتنامى مع البُعد ، على سطح الكرة ، أجلْ العمق يتنامى مع البعد ، فلو أخذت سنتيمترًا على سطح كرة يكوِّن خطًا مستقيمًا ، أمّا لو أخذت خمسين سنتيمترا ، وهي كرة كبيرة ، صار الخط منحنيًا ، إذاً العمقُ يتنامى مع البُعد ، معناها الذي قال هذا الكلام خالق الكون .
هناك آيات كثيرة ، فهناك إعجاز علمي ، وهناك إعجاز تشريعي ، وهناك إعجاز إخباري .
لكن الذي يعنينا في هذا اليوم ، الإعجاز الذي هو من نوع تحقق الوعد والوعيد ، فحيثما رأيت حالةَ إنسانٍ مثلاً ماله حرام ، فقد ورد في الجامع الصغير حديث شريف أن النبي خاطب بعض القبائل حسب لهجتهم ، قال : "من أصاب مالاً في مهاوش أذهبه الله في نهابر "، المهاوش يعني بالاحتيال ، والنهابر يعني يذهب نهباً ، من أصاب مالاً في مهاوش أذهبه الله في نهابر ، يعني إذا الإنسان ماله حرام ، في الأعم الأغلب ، يذهب هذا المال بشكل غير معقول ، سلبًا أو نهبًا أو غصبًا إلخ ....
إذاً أنت دائماً وأبداً دقِّق فيما يجري ، عندما ترى مثلاً بلدًا تُرتَكب فيه المعاصي على قدم وساق ، ليس فيه إلا الشهوات ، والأموال الحرام ، وانتهاك الأعراض ، وسلب الأموال ، ولقد أصابتها مصيبة كبيرة طحنتها طحناً في عشر سنوات ، اقرأ قوله تعالى:
{وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } النحل112
كل حدث يقع في الأرض يدلُّك على أن يدَ الله تعمل ، حينما ترى كيانًا عمره سبعون سنة تداعى كبيت العنكبوت ، وكان قلعة عاتية من قلاع الأرض ، فاقرأ قوله تعالى : " إن الباطل كان زهوقاً "
( سورة الإسراء : 81 )
فأنت إذا قرأت القرآن فإنّه يلقي ضوءًا ساطعاً على كل حدث ، والأحداث تؤيد ما في القرآن ، والقرآن يدلك على تفسير الأحداث ، الأحداث دائماً تؤكد مضمون القرآن ، ومضمون القرآن يلقي
ضوءًا على ما في الأحداث .
لذلك أحد أنواع شهادة الله لعباده مِن أنَّ القرآن كلامه هو تحقُّقُ الوعد والوعيد ، وتطابق الأحداث الكبرى مع ما في القرآن الكريم ، أنا قلت : أحد أنواع الشهادة ، لأن الله عز وجل يشهد لك شهادة أخرى ، حينما تقرأ القرآن ترتاح نفسك ، ويطمئن قلبك ، قال تعالى : " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " ( سورة الرعد : 28 )
إذاً أيضاً حينما تقرأ القرآن ، وتشعر بالراحة والسعادة ، فهذا مصداق قوله تعالى : " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " نعيد تلاوةَ الآية مرة ثانية : " لكن الله يشهد بما أنزل إليك يا محمد هو الذي يشهد لكم أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا "
فكل شاب مؤمن مثلاً قرأ الآية :" من عمل صالحاً من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينه حياةً طيبة "
فأيّ شاب يستقيم على أمر الله ، يُقبل على الله ، يطلب العلم ، يعلّم الناس ، يأمر بالمعروف ، ينهى عن المنكر ، ينفق من ماله ، يختار زوجة صالحة ، تسأله عن حاله والناس في ضائقة وفي قلق وفي شك ، يقول لك : الحمد لله ، واللهِ أنا من السعداء ، هذا الكلام مصداق قوله تعالى :" فلنحيينه حياةً طيبة "
وقد تلتقي مع إنسان ماله حرام ، بيته غير إسلامي ، فيه مخالفات ، فيه تجاوزات ، يقول لك : ما هذه الحياة "، الموت أشرف ، فكلامُه صحيح ، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى .
إذًا فاقرأ القرآن وأربط بينه وبين ما يجري ، تجد أن كل الأحداث ، تؤيده ، وهو يكشف لك حقيقة الأحداث ، فذات مرة قلت لإخواننا : إنَّ أحداث جيراننا ، هناك من يفسرها تفسيرًا عربيًا ، وتفسيرًا دوليًا ، وتفسيرًا طائفيًا ، حتى وصل الأمرُ إلى تفسير نسائي ، أصابتْه عين مثلاً ، لكن هناك تفسير إلهي ، وهو الصواب : "وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " ، هذا كلام الله عز وجل ، وهذا التفسير الذي يصيب كبد الحقيقة .
يا أيها الإخوة الأكارم ؛ شهادة الله هي في وقوع الوعد والوعيد ، الوعد والوعيد يتحقق، وبتحققه تكون شهادة الله لنا أنَّ هذا
القرآن كلامه ؛ والحمد لله رب العالمين